فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويلقاك الرجل صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول: خالفني إلى الماء يريد، أنه قد ذهب إليه واردًا وأنا ذاهب عنه صادرًا، ومنه قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَلِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح} ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر: {مَا استطعت} ظرف أي مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكنًا منه لا آلو فيه جهدًا: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} وما كوني موفقًا لإصابة الحق فيما آتى وآذر إلا بمعونته وتأييده: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع في السراء والضراء.
{جرم} مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين ومنه قوله: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم} أي لا يكسبنكم خلافي إصابة العذاب: {مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالح} وهو الغرق والريح والرجفة: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} في الزمان فهم أقرب الهالكين منكم، أو في المكان فمنازلهم قريبة منكم أو فيما يستحق به الهلاك وهو الكفر والمساوئ.
وسُوِّي في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} يغفر لأهل الجفاء من المؤمنين: {وَدُودٌ} يحب أهل الوفاء من الصالحين: {قَالُواْ يا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} أي لا نفهم صحة ما تقول وإلا فكيف لا يفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} لا قوة لك ولا عز فيما بيننا فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهًا: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} ولولا عشيرتك لقتلناك بالرجم وهو شر قتلة وكان رهطه من أهل ملتهم فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا.
وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا ولذلك {قَالَ} في جوابهم: {يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب.
وإنما قال: {أرهطي أعز عليكم من الله} والكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، لأن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله، وحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ألا ترى إلى قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] {واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المبنوذ وراء الظهر لا يعبأ به والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبة إلى الأمس أمسى: {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قد أحاط بأعمالكم علمًا فلا يخفى عليه شيء منها.
{وَيَا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} هي بمعنى المكان يقال: مكان ومكانة ومقام ومقامة، أو مصدر من مكن مكانة فهومكين إذا تمكن من الشيء يعني اعملوا فارين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك، والشنآن لي، أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها: {إِنّى عامل} على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} {من} استفهامية معلقة لفعل العلم من عمله فيها كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه أي يفضحه، وأينا هو كاذب. أو موصولة قد عمل فيها كأنه قيل: سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب في زعمكم ودعواكم.
وإدخال الفاء في: {سوف} وصل ظاهر بحرف وضع للوصل، ونزعها وصل تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون.
والإتيان بالوجهين للتفنن في البلاغة وأبلغهما الاستئناف: {وارتقبوا} وانتظروا العاقبة وما أقول لكم: {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب بمعنى الضارب، أو بمعنى المراقب كالعشير بمعنى المعاشر، أو بمعنى المرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل صيحة فهلكوا.
وإنما ذكر في آخر قصة عاد ومدين: {ولما جاء} وفي آخر قصة ثمود ولوط: {فلما جاء} لأنهما وقعا بعد ذكر الموعد وذلك قوله: {إن موعدهم الصبح}، {ذلك وعد غير مكذوب} فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب كقولك: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت.
وأما الأخريان فقد وقعتا مبتدأتين فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} الجاثم اللازم لمكانه لا يريم يعني أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو بغتة: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين: {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ} البعد بمعنى البعد وهو الهلاك كالرشد بمعنى الرشد ألا ترى إلى قوله: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وَقرئ: {كما بعُدت} والمعنى في البناءين واحد وهو نقيض القرب إلا أنهم فرقوا بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا: وعد وأوعد. اهـ.

.قال البيضاوي في الآيات السابقة:

{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا} أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه: {قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} أمرهم بالتوحيد أولًا فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض: {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} بسعة تغنيكم عن البخس، أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكرًا عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، أو بسعة فلا تزيلوها بما أنتم عليه وهو في الجملة علة للنهي: {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} لا يشذ منه أحد منكم. وقيل عذاب مهلك من قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال، ووصف اليوم بالإِحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه.
{وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان} صرح بالأمر بالإِيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيهًا على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإِيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها: {بالقسط} بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظورًا: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار، أو في غيره وكذا قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات، والعثو السرقة وقطع الطريق والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإِصلاح كما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام. وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم.
{بَقِيَّتُ الله} ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم: {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالتطفيف: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإِيمان. أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل البقية الطاعة كقوله: {والباقيات الصالحات} وقرئ: {تقية} الله بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي.
{وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم عن القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
{قَالُواْ يا شُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} من الأصنام، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإِشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى: أصلاتك تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره: {أَوْ أَنْ نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على: {أَن نَّتْرُكَ} وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإِيفاء. وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّي} إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإِنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه. وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، والضمير في: {مِنْهُ} لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم، فلو كان صوابًا لآثرته ولم أعرض عنه فضلًا عن أن أنهى عنه، يقال خالفت زيدًا إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإِصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه، ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن: وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى، وثانيها حق النفس، وثالثها حق الناس. وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم عنه. و: {مَا} مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من: {الإصلاح} أي المقدار الذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضًا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل. وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإِصابة الحق فيما يأتيه ويذره من الله تعالى، والاستعانة به في مجامع أمره والإِقبال عليه بشراشره، وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء.
{وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم: {شِقَاقِى} معاداتي: {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق: {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح: {أَوْ قَوْمَ صالح} من الرجفة و: {أن} بصلتها ثاني مفعولي جزم، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. وعن ابن كثير: {يَجْرِمَنَّكُمْ} بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد، والأول أفصح فإن أجرم أقل دورانًا على ألسنة الفصحاء. وقرئ: {مَثَلُ} بالفتح لإِضافته إلى المبنى كقوله:
لَمْ يُمْنع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَت ** حَمَامَةٌ فِي غُصُون ذات ارْقَالِ

{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} زمانًا أو مكانًا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، ولا يبعد أن يسوي في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق.
{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} عما أنتم عليه: {إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} عظيم الرحمة للتائبين: {وَدُودٌ} فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} ما نفهم: {كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلًا عليهما، وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكرهم. وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءًا، أو مهينًا لاعِزَّ لك، وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف، ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياسًا على القضاء والشهادة والفرق بين: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم، فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة: {لرجمناك} لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} فتمنعنا عزتك عن الرجم، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب، والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإِهانة برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي، وهو يحتمل الإِنكار والتوبيخ والرد والتكذيب، و: {ظِهْرِيًّا} منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب: {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.
{وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} سبق مثله في سورة {الأنعام} والفاء في ف: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ثمة للتصريح بأن الإِصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك، وحذفها هاهنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.
{وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك: ستعلم الكاذب والصادق، بل لأنهم لما أو عدوه وكذبوه قال: سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم. وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبًا قال: ومن هو كاذب على زعمهم: {وارتقبوا} وانتظروا ما أقول لكم: {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} فلذلك جاء بفاء السببية: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} ميتين، وأصل الجثوم اللزوم في المكان.
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يقيموا فيها: {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضًا بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم. وقرئ: {بَعُدَتْ} بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

القصة السادسة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة شعيب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وإلى مدين} أي: وأرسلنا إلى مدين وهم قبيلة؛ أبوهم مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل: هو اسم مدينة بناها مدين المذكور، وعلى هذا فالتقدير: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، {أخاهم}، أي: في النسب لا في الدين و: {شعيبًا} عطف بيان وكأنّ قائلًا قال: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} ما قال إخوته من الأنبياء في البداءة بأصل الدين: {يا قوم} مستعطفًا لهم مظهرًا غاية الشفقة: {اعبدوا الله}، أي: وحدوه ولا تشركوا به شيئًا: {ما لكم من إله غيره} فلقد اتفقت كما ترى كلمتهم، واتحدت إلى الله تعالى دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعًا من تباعد أعصارهم، وتنائي ديارهم، وإن بعضهم لم يلمّ بالعلوم، ولا عرف أخبار الناس إلا من الحيّ القيوم، ولما دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين الله تعالى دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا اتخذوه بعد الشرك تدينًا فقال: {ولا تنقصوا} بوجه من الوجوه: {المكيال والميزان}، أي: لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته، والكيل تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة، والوزن تعديله في الخفة والثقل، فالكيل العدل في الكمية والوزن العدل في الكيفية، ثم علل ذلك بقوله: {إني أراكم بخير}، أي: بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف. قال ابن عباس: كانوا موسرين في نعمة. وقال مجاهد: كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يؤمنوا ويتوبوا وهو قوله: {وإني أخاف عليكم} إن لم تؤمنوا: {عذاب يوم محيط}، أي: يحيط بكم فيهلككم جميعًا وهو عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، ومنه قوله تعالى: {وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين} والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور، كقوله: {هذا يوم عصيب} (هود).